فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {أرأيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يعني بالحساب، قاله عكرمة ومجاهد.
الثاني: بحكم الله تعالى، قاله ابن عباس.
الثالث: بالجزاء الثواب والعقاب.
واختلف فيمن نزل هذا فيه على خمسة أوجه:
أحدها: أنها نزلت في العاص بن وائل السهمي، قاله الكلبي ومقاتل.
الثاني: في الوليد بن المغيرة، قاله السدي.
الثالث: في أبي جهل.
الرابع: في عمرو بن عائذ، قاله الضحاك.
الخامس: في أبي سفيان وقد نحر جزورًا، فأتاه يتيم، فسأله منها، فقرعه بعصا، قاله ابن جريج.
{فذلك الذي يَدُعُّ اليتيم} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: بمعنى يحقر البيت، قاله مجاهد.
الثاني: يظلم اليتيم، قاله السدي.
الثالث: يدفع اليتيم دفعًا شديدًا، ومنه قوله تعالى: {يوم يُدَعُّونَ إلى نارِ جهنَّمَ دعًّا} أي يُدفعون إليها دفعًا.
وفي دفعه اليتيم وجهان:
أحدهما: يدفعه عن حقه ويمنعه من ماله ظلمًا له وطمعًا فيه، قاله الضحاك.
الثاني: يدفعه إبعادًا له وزجرًا، وقد قرئ: {يَدَعُ اليتيم} مخففة، وتأويله على هذه القراءة يترك اليتيم فلا يراعيه اطراحًا له وإعراضًا عنه. ويحتمل على هذه القراءة تأويلًا ثالثًا: يدع اليتيم لاستخدامه وامتهانه قهرًا واستطالة.
{ولا يَحُضُّ على طعامِ المِسْكِينِ} أي لا يفعله ولا يأمر به، وليس الذم عامًا حتى يتناول من تركه عجزًا، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم يقولون {أنطعم من لو يشاءُ الله أطْعَمَهُ} فنزلت هذه الآية فيهم، ويكون معنى الكلام لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عجزوا.
{فَويْلٌ للمُصَلَّينَ} الآية، وفي إطلاق هذا الذم إضمار، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه المنافق، إن صلاها لوقتها لم يرج ثوابها، وإن صلاها لغير وقتها لم يخش عقابها، قاله الحسن.
الثاني: أن إضماره ظاهر متصل به، وهو قوله تعالى: {الذين هم} الآية. وإتمام الآية في قوله: {فويل للمصلين} ما بعدها من قوله: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} إضمارًا فيها وإن كان نطقًا ظاهرًا.
وليس السهو الذي يطرأ عليه في صلاته ولا يقدر على دفعه عن نفسه هو الذي ذم به، لأنه عفو.
وفي تأويل ما استحق به هذا الذم ستة أوجه:
أحدها: أن معنى ساهون أي لاهون، قاله مجاهد.
الثاني: غافلون، قاله قتادة.
الثالث: أن لا يصلّيها سرًا ويصليها علانية رياء للمؤمنين، قاله الحسن.
الرابع: هو الذي يلتفت يمنة ويسرة وهوانًا بصلاته، قاله أبو العالية.
الخامس: هو ألا يقرأ ولا يذكر الله، قاله قطرب.
السادس: هو ما روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن {الذين هم عن صلاتهم ساهون} فقال: «هم الذين يؤخرون الصلاة عن مواقيتها».
{الذين هم يُراءونَ} فيه وجهان:
أحدهما: المنافقون الذين يراءون بصلاتهم، يصلّونها مع الناس إذا حضروا، ولا يُصلّونها إذا غابوا، قاله على وابن عباس.
الثاني: أنه عامّ في ذم كل من راءى لعمله ولم يقصد به إخلاصًا لوجه ربه.
روي عن النبي صلى الله عيله وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: مَن عَمِل عملا لغيري فقد أشرك بي وأنا أغنى الشركاء عن الشرك».
{ويَمْنَعُونَ الماعونَ} فيه ثمانية تأويلات:
أحدها: أن الماعون الزكاة، قاله على وابن عمر والحسن وعكرمة وقتادة، قال الراعي:
أخليفة الرحمن إنا مَعْشَرٌ ** حُنَفاءُ نسجُد بكرةً وأصيلًا

عَرَبٌ نرى لله في أمْوالِنا ** حقَّ الزكاة مُنزّلا تنزيلًا

قَوْمٌ على الإسلام لمّا يَمْنعوا ** ماعونَهم ويضَيِّعوا التهْليلا

الثاني: أنه المعروف، قاله محمد بن كعب.
الثالث: أنه الطاعة، قاله ابن عباس.
الرابع: أنه المال بلسان قريش، قاله سعيد بن المسيب والزهري.
الخامس: أنه الماء إذا احتيج إليه ومنه الماء المعين وهو الجاري، قال الأعشى:
بأجود منا بماعونه ** إذا ما سماؤهم لم تغِم

السادس: أنه ما يتعاوره الناس بينهم، مثل الدلو والقدر والفاس، قاله ابن عباس، وقد روي مأثورًا.
السابع: أنه منع الحق، قاله عبد الله بن عمر.
الثامن: أنه المستغل من منافع الأموال، مأخوذ من المعنى وهو القليل، قاله الطبري وابن عيسى.
ويحتمل تاسعًا: أنه المعونة بما خف فعله وقل ثقله. اهـ.

.قال ابن عطية:

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بالدين (1)}
هذا توقيف وتنبيه لتتذكر نفس السامع كل من يعرفه بهذه الصفة، وهمز أبو عمرو: {أرأيت} بخلاف عنه ولم يهمزها نافع وغيره، و{الدين} الجزاء ثوابًا وعقابًا، والحساب هنا قريب من الجزاء ثم قال تعالى: {فذلك الذي يدعُّ اليتيم} أي ارقب فيه هذه الخلال السيئة تجدها، ودع اليتيم: دفعه بعنف، وذلك إما أن يكون المعنى عن إطعامه والإحسان إليه، وإما أن يكون عن حقه وماله، فهذا أشد.
وقرأ أبو رجاء: {يدَع}، بفتح الدال خفيف بمعنى لا يحسن إليه، وقوله تعالى: {ولا يحض على طعام المسكين} أي لا يأمر بصدقة ولا يرى ذلك صوابًا، ويروى أن هذه السورة نزلت في بعض المضطرين في الإسلام بمكة الذين لم يحققوا فيه وفتنوا فافتتنوا، وكانوا على هذه الخلق من الغشم وغلظ العشرة والفظاظة على المسلمين، وربما كان بعضهم يصلي أحيانًا مع المسلمين مدافعة وحيرة فقال تعالى فيهم: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون}.
قال ابن جريج: كان أبو سفيان ينحر كل أسبوع جزورًا فجاءه يتيم، فقرعه بعصا فنزلت السورة فيه، وقال سعد بن أبي وقاص: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن {الذين هم عن صلاتهم ساهون}، فقال: هم الذين يؤخرونها عن وقتها، يريد والله أعلم تأخير ترك وإهمال، وإلى هذا نحا مجاهد، وقال قتادة {ساهون}، هو الترك لها وهم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم صلى أو لم يصل، وقال عطاء بن يسار: الحمد لله الذي قال: {عن صلاتهم} ولم يقل في صلاتهم، وفي قراءة ابن مسعود: {لاهون} بدل {ساهون} وقوله تعالى: {الذين هم يراؤون} بيان أن صلاة هؤلاء ليست لله تعالى بينة إيمان، وإنما هي رياء للبشر فلا قبول لها.
وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو الأشهب: {يرؤن} مهموزة مقصورة مشددة الهمزة، وروي عن ابن أبي إسحاق: {يرؤون} بغير شد في الهمزة، وقوله تعالى: {ويمنعون الماعون} وصف لهم بقلة النفع لعباد الله، وتلك شرخلة، وقال علي بن أبي طالب وابن عمر: {الماعون}، الزكاة، وقال الراعي: الكامل:
قوم على الإسلام لما يمنعوا ** ماعونهم ويضيعوا التهليلا

وقال ابن مسعود: هو ما يتعاطاه الناس بينهم كالفأس والدلو والآنية والمقص ونحوه، وقاله الحسن وقتادة وابن الحنفية وابن زيد والضحاك وابن عباس، وقال ابن المسيب: {الماعون} بلغة قريش: المال، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: «الماء والنار والملح» روته عائشة رضي الله عنها، وفي بعض الطرق زيادة الإبرة والخمير، وحكى الفراء عن بعض العرب أن {الماعون} الماء: وقال ابن مسعود: كنا نعد {الماعون} على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية القدر والدلو ونحوها. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين}
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ستة أقوال:
أحدها: نزلت في رجل من المنافقين، قاله ابن عباس.
والثاني: نزلت في عمرو بن عائذ، قاله الضحاك.
والثالث: في الوليد بن المغيرة، قاله السدي.
والرابع: في العاص بن وائل، قاله ابن السائب.
والخامس: في أبي سفيان بن حرب، قاله ابن جريج.
والسادس: في أبي جهل، حكاه الماوردي.
وفي (الدين) أربعة أقوال.
أحدها: أنه حكم الله عز وجل، قاله ابن عباس.
والثاني: الحساب، قاله مجاهد، وعكرمة.
والثالث: الجزاء، حكاه الماوردي.
والرابع: القرآن، حكاه بعض المفسرين.
و{يَدُعُّ} بمعنى يدفع.
وقد ذكرناه في قوله تعالى: {يوم يُدَعُّون إِلى نار جهنم} [الطور: 13] والمعنى: أنه يدفع اليتيم عن حقه دفعًا عنيفًا ليأخذ ماله، وقد بينا فيما سبق أنهم كانوا لا يورِّثون الصغير، وقيل: يدفع اليتيم إبعادًا له، لأنه لا يرجو ثواب إطعامه {ولا يحض على طعام المسكين} أي: لا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه، لأنه مكذِّب بالجزاء.
قوله تعالى: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} نزل هذا في المنافقين الذين لا يرجون لصلاتهم ثوابًا، ولا يخافون على تركها عقابًا.
فإن كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلوا رياءً، وإن لم يكونوا معه لم يصلوا، فذلك قوله تعالى: {الذين هم يراؤون} وقال ابن مسعود: والله ما تركوها البتَّة ولو تركوها البتة كانوا كفارًا، ولكن تركوا المحافظة على أوقاتها.
وقال ابن عباس: يؤخِّرونها عن وقتها.
ونقل عن أبي العالية أنه قال: هو الذي لا يدري عن كم انصرف، عن شفع، أو عن وتر.
وردَّ هذا بعض العلماء فقال: هذا ليس بشيء، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سها في صلاته، ولأنه قال تعالى: {عن صلاتهم} ولم يقل: في صلاتهم، ولأن ذاك لا يكاد يدخل تحت طوق ابن آدم.
قال الشيخ رحمه الله: قلت: ولا أظن أبا العالية أراد السهو النادر، وإنما أراد السهو الدائم، وذلك ينبئنا عن التفات القلب عن احترام الصلاة، فيتوجَّه الذمُّ إلى ذلك لا إلى السهو.
وفي {الماعون} ستة أقوال.
أحدها: أنه الإبرة، والماء، والنار، والفأس، وما يكون في البيت من هذا النحو، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى نحوه ذهب ابن مسعود وابن عباس في رواية.
وروى عنه أبو صالح أنه قال: الماعون: المعروف كلُّه حتى ذَكَرَ القِدر، والقصعة، والفأس.
وقال عكرمة: ليس الويل لمن منع هذا، إنما الويل لمن جمعهن، فراءى في صلاته، وسها عنها، ومنع هذا.
قال الزجاج: والماعون في الجاهلية: كل ما كان فيه منفعة كالفأس، والقدر، والدلو، والقداحة، ونحو ذلك، وفي الإسلام أيضًا.
والثاني: أنه الزكاة، قاله على، وابن يعمر، والحسن، وعكرمة، وقتادة.
والثالث: أنه الطاعة، قاله ابن عباس في رواية.
والرابع: المال، قاله سعيد بن المسيب، والزهري.
والخامس: المعروف، قاله محمد بن كعب.
والسادس: الماء ذكره الفراء عن بعض العرب قال: وأنشدني:
يمج صَبِيرُهُ الماعونَ صَبًَّا

والصبير: السحاب. اهـ.

.قال القرطبي:

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بالدين (1)} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين} أي بالجزاء والحساب في الآخرة؛ وقد تقدّم في (الفاتحة).
و{أَرَأَيْتَ} بإثبات الهمزة الثانية؛ إذ لا يُقال في أرأيت: رَيْت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفًا؛ ذكره الزَّجاج.
وفي الكلام حذف؛ والمعنى: أرأيت الذي يكذب بالدين: أَمُصيب هو أم مُخْطئ.
واختلِف فيمن نزل هذا فيه؛ فذكر أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في العاص بن وائل السَّهْمِيّ؛ وقاله الكلبيّ ومقاتل.
وروى الضحاك عنه قال: نزلت في رجل من المنافقين.
وقال السُّدّيّ: نزلت في الوليد بن المغيرة.
وقيل في أبي جهل.
الضحاك: في عمرو بن عائذ.
قال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جَزُورًا، فطلب منه يتيم شيئًا، فقَرعه بعصاه؛ فأنزل الله هذه السورة.
و{يَدُعُّ} أي يدفع، كما قال: {يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] وقد تقدّم.
وقال الضحاك عن ابن عباس.
{فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم} أي يدفعه عن حَقّه.
قتادة: يقهره ويظلمه.
والمعنى متقارِب.
وقد تقدّم في سورة (النساء) أنهم كانوا لا يُوَرّثون النساء ولا الصغار، ويقولون: إنما يحوز المال من يَطْعُن بالسنان، ويضرب بالحُسام.
ورُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ ضمَّ يتيمًا من المسلمين حتى يسْتَغْنِي، فقد وجبتْ له الجنة» وقد مضى هذا المعنى في غير موضع.
الثانية: قوله تعالى: {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} أي لا يأمر به، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء.
وهو مِثل قوله تعالى في سورة الحاقة: {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} [الحاقة: 34] وقد تقدّم.
وليس الذم عامّا حتى يتناول من تركه عجزًا، ولكنهم كانوا يَبْخَلُون ويعتذرون لأنفسهم، ويقولون: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ الله أَطْعَمَهُ} [ياس: 47]، فنزلت هذه الآية فيهم، وتوجه الذم إليهم.
فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قَدَرُوا، ولا يحثُّون عليه إن عسِروا.
الثالثة: قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} أي عذاب لهم.
وقد تقدّم في غير موضع.
{الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ}، فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هو المصلَّي الذي إن صلى لم يَرْج لها ثوابًا، وإن تركها لم يخشَ عليها عقابًا.
وعنه أيضًا: الذين يؤخرونها عن أوقاتها.
وكذا رَوى المغيرة عن إبراهيم، قال: سَاهونَ بإضاعة الوقت.
وعن أبي العالية: لا يصلونها لِمَوَاقِيتِهَا، ولا يُتِمُّون ركوعها ولا سجودها.
قلت: ويدل على هذا قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة} [مريم: 59] حَسْبَ ما تقدّم بيانه في سورة (مريم) عليها السلام.
وروي عن إبراهيم أيضًا: أنه الذي إذا سجد قام برأسه هكذا ملتفتًا.
وقال قطرب: هو ألا يقرأ ولا يذكر الله.
وفي قراءة عبد الله {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ لاَهُون}.
وقال سعد بن أبي وقَّاص: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} قال: «الذينَ يؤخِّرون الصلاة عن وقتها، تهاونًا بها» وعن ابن عباس أيضًا: هم المنافقون يتركون الصلاة سِرًّا، يصلونها علانية {وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى} [النساء: 142]... الآية.
ويدل على أنها في المنافقين قوله: {الذين هُمْ يُرَاءُونَ}، وقاله ابن وهب عن مالك.
قال ابن عباس: ولو قال في صلاتهم ساهون لكانت في المؤمنين.
وقال عطاء: الحمد لله الذي قال: {عَنْ صلاتِهِم} ولم يقل في صلاتهم.
قال الزَمَخْشَرِيُّ: فإن قلت: أيّ فرق بين قوله: {عن صلاتِهِم}، وبين قولك: في صلاتهم؟
قلت: معنى (عن) أنهم ساهون عنها سهو تركٍ لها وقلةِ التفات إليها، وذلك فعل المنافقين، أو الفَسَقة الشُّطَّار من المسلمين.
ومعنى {في} أن السهو يعتريهم فيها، بوسوسة شيطان، أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته، فضلًا عن غيره؛ ومِن ثمّ أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم.
قال ابن العَرَبيّ: لأن السلامة من السهو محال، وقد سها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته والصحابة.
وكل من لا يسهو في صلاته، فذلك رجل لا يتدبَّرُها، ولا يعقِل قراءتها، وإنما همه في أعدادها؛ وهذا رجل يأكل القشور، ويرمِي اللب.
وما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته إلا لفكرته في أعظم منها؛ اللهم إلا أنه قد يسهو في صلاته من يقبل على وسواس الشيطان إذا قال له: اذكر كذا، اذكر كذا؛ لِما لم يكن يذكر، حتى يضِلّ الرجل أن يدري كم صلى.
الرابعة: قوله تعالى: {الذين هُمْ يُرَاءُونَ} أي يُرِي الناس أنه يصلي طاعة وهو يصلي تَقِيَّة؛ كالفاسق، يري أنه يصلي عبادة وهو يصلي ليقال: إنه يصلي. وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس.
وأولها تحسين السَّمْت؛ وهو من أجزاء النبوّة، ويريد بذلك الجاهَ والثناء.
وثانيها: الرياء بالثياب القصار والخشِنة؛ ليأخذ بذلك هيئة الزهد في الدنيا.
وثالثها: الرياء بالقول، بإظهار التسخط على أهل الدنيا؛ وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوت من الخير والطاعة.
ورابعها: الرياء بإظهار الصلاة والصدقة أو بتحسين الصلاة لأجل رؤية الناس؛ وذلك يطول، وهذا دليله؛ قاله ابن العربي.
قلت: قد تقدم في سورة (النساء وهود وآخر الكهف) القول في الرياء وأحكامه وحقيقته بما فيه كفاية. والحمد لله.
الخامسة: ولا يكون الرجل مرائيًا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة؛ فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها، لقوله عليه السلام: «ولا غُمة في فرائض الله».
لأنها أعلام الإسلام، شعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت؛ فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوّعًا فحقه أن يُخْفَى؛ لأنه لا يلام بتركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدًا للاقتداء به كان جميلًا.
وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين، فتثني عليه بالصلاح.
وعن بعضهم أنه رأى رجلًا في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطالها؛ فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك. وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة.
وقد مضى هذا المعنى في سورة (البقرة) عند قوله تعالى: {إِن تبدوا الصدقاتِ}، وفي غير موضع. والحمد لله على ذلك.
السادسة: قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الماعون} فيه اثنا عشر قولا:
الأول: أنه زكاة أموالهم. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. ورُوِي عن علي رضي الله عنه مثل ذلك، وقاله مالك. والمراد به المنافق يمنعها.
وقد رَوَى أبو بكر بن عبد العزيز عن مالك قال: بلغني أن قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الذين هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الماعون} قال: إن المنافق إذا صلى صلى رياء، وإن فاتته لم يندم عليها، {ويمنعون الماعون} الزكاة التي فرض الله عليهم.
قال زيد بن أسلم: لو خَفِيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا. القول.
الثاني: أن {الماعون} المال، بلسان قريش؛ قاله ابن شهاب وسعيد بن المسيب.
وقول ثالث: أنه اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك؛ قاله ابن مسعود، وروي عن ابن عباس أيضًا.
قال الأعشى:
بِأَجْودَ مِنهُ بِماعونِهِ ** إِذا ما سَمَاأُهُمْ لَمْ تَغِمِ

الرابع: ذكر الزجاج وأبو عُبيد والمبرّد أن الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة، حتى الفأس والقدر والدلو والقدّاحة، وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير؛ وأنشدوا بيت الأعشى.
قالوا: والماعون في الإسلام: الطاعة والزكاة؛ وأنشدوا قول الراعي:
أَخَلِيفَةَ الرحمن إنَّا مَعْشَرٌ ** حُنَفاءُ نَسْجُدُ بُكْرةً وأَصِيلاَ

عَرَبٌ نَرَى لِلَّهِ مِن أَمْوالِنا ** حَقَّ الزكاةِ مُنَزَّلًا تَنْزِيلاَ

قَومٌ على الإسلامِ لَمَّا يمْنَعُوا ** ماعُونَهُمْ ويُضَيِّعُوا التهليلا

يعني الزكاة.
الخامس: أنه العارِيَّة؛ روي عن ابن عباس أيضًا.
السادس: أنه المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم؛ قاله محمد بن كعب والكلبيّ.
السابع: أنه الماء والكَلأَ.
الثامن: الماء وحده.
قال الفراء: سمِعت بعض العرب يقول: الماعون: الماء؛ وأنشدني فيه:
يَمَجّ صَبِيرُه الماعونَ صَبًّا

الصَّبير: السحاب.
التاسع: أنه منع الحق؛ قاله عبد الله بن عمر.
العاشر: أنه المستغل من منافع الأموال؛ مأخوذ من المَعْن وهو القليل؛ حكاه الطبريّ وابن عباس.
قال قطرب: أصل الماعون من القلة.
والمعن: الشيء القليل؛ تقول العرب: ماله سَعْنة ولا معنة؛ أي شيء قليل.
فسمى الله تعالى الزكاة والصدقة ونحوهما من المعروف ماعونًا؛ لأنه قليل من كثير.
ومن الناس من قال: الماعون: أصله مَعُونة، والألف عوض من الهاء؛ حكاه الجوهريّ.
ابن العربيّ: الماعون: مفعول من أعان يعين، والعَوْن: هو الإمداد بالقوّة والآلات والأسباب الميسرة للأمر.
الحادي عشر: أنه الطاعة والانقياد.
حكى الأخفش عن أعرابي فصيح: لو قد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعًا تعطيك الماعون؛ أي تنقاد لك وتطيعك.
قال الراجز:
مَتَى تصادِفْهُنَّ في الْبرِينِ ** يَخْضعن أو يُعطِين بالماعونِ

وقيل: هو ما لا يحل منعه، كالماء والملح والنار؛ لأن عائشة رضوان الله عليها قالت: قلت: يا رسول الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: «الماء والنار والملح» قلت: يا رسول الله هذا الماء، فما بال النار والملح؟ فقال: «يا عائشة من أعطى نارًا فكأنما تصدّق بجميع ما طبخ بتلك النار، ومن أعطى ملحًا فكأنما تصدق بجميع ما طيب به ذلك الملح، ومن سَقى شَربة من الماء حيث يوجد الماء، فكأنما أعتق ستين نسمة. ومن سقَى شربة من الماء حيث لا يوجد، فكأنما أحيا نَفْسًا، {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا}» ذكره الثعلبيّ في تفسيره، وخرّجه ابن ماجه في سننه. وفي إسناده لِين؛ وهو القول الثاني عشر. الماورديّ: ويحتمل أنه المعونة بما خف فعله وقد ثقله الله. والله أعلم.
وقيل لعِكرمة مولى ابن عباس: من منع شيئًا من المتاع كان له الويل؟ فقال: لا، ولكن من جمع ثلاثهن فله الويل؛ يعني: ترك الصلاة، والرياء، والبُخْل بالماعون.
قلت: كونها في المنافقين أشبه، وبهم أَخلق؛ لأنهم جمعوا الأوصاف الثلاثة: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالمال؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَاءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 142]، وقال: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].
وهذه أحوالهم، ويبعد أن توجد من مسلم محقق، وإن وجد بعضها فيلحقه جزء من التوبيخ، وذلك في منع الماعون إذا تعين؛ كالصلاة إذا تركها.
والله أعلم.
إنما يكون منعًا قبيحًا في المروءة في غير حال الضرورة.
والله أعلم. اهـ.